الارتقاء بالنفس- رحلة مستمرة نحو الكمال والإيمان الراسخ

المؤلف: أسعد طه08.13.2025
الارتقاء بالنفس- رحلة مستمرة نحو الكمال والإيمان الراسخ

(1) رحلة البحث عن الذات والوصول إلى الله

عندما سعيت لأن أكون من بين العابدين، لم أجد نفسي أستحق هذا المقام. وعندما حاولت أن أكون من المجاهدين، شعرت بالقصور. وحتى عندما انضممت إلى صفوف المصلين، لم أجد الاستقامة التي تؤهلني. حينها، توجهت إلى الله متسائلاً: "يا رب، ما السبيل إليك؟" فأتاني الجواب: "تخلَّ عن ذاتك الأنانية وتعالَ إليّ".

في أوقات العبادة المكثفة، تنكشف حقيقة ذواتنا. يظهر تقصيرنا وعجزنا، ليس أمام الناس، بل أمام أنفسنا، وهذا هو جوهر الأمر. في البداية، يملأنا الحماس الزائف، ونعلن إيماننا القوي. لكن عندما نبدأ في تقييم أنفسنا ومقارنتها بالصراط المستقيم، نصاب بالدهشة وخيبة الأمل.

كلام "أبو يزيد البسطامي" يصف حالتي تمامًا، فأنا لست من العابدين المخلصين، ولا من المجاهدين البواسل، ولا من المصلين الخاشعين. وعندما يغمرني الحزن والندم على هذا الحال، يأتيني الجواب نفسه: "تخلَّ عن نفسك وتعال".

الحقيقة هي أننا نريد الله، ولكن بشرط أن نحتفظ ببعض الأمور الأخرى الدنيوية، وهذا يعني أن قلوبنا مليئة بالعوائق والأشواك. لذلك، يجب أن نتخلى عن كل شيء، رغباتنا وشهواتنا وفلسفاتنا الزائدة. يجب أن نترك كل شيء وراء ظهورنا، حتى أنفسنا، ونتوجه إلى الله بقلوب صافية.

الهمة الحقيقية ليست مجرد شرارة تشتعل ثم تنطفئ، فالإرادة الحقيقية تكمن في الاستمرار والثبات. وهذا ما وصفه "أبو عبد الله بن خفيف" بدقة، فالأمر يتطلب كدًّا دائمًا ومستمرًا، وتخليًا عن الراحة والدعة.

(2) الهمة العالية دليل على كمال العقل

من علامات كمال العقل سمو الهمة، والراضي بالدون دنيء

كلما قرأت هذه المقولة لـ "ابن الجوزي"، شعرت وكأنها صفعة قوية. فهو يشير بوضوح إلى أن الهمة المتدنية هي علامة على نقصان العقل، وأن الشخص الذي يرضى بالقليل هو شخص دنيء! إنه وصف قاسٍ وصادم.

ولكنه محق تمامًا، فأحلامنا وطموحاتنا في الدين والدنيا لا حدود لها، ولكن عزيمتنا وإرادتنا غالبًا ما تكون أقل من مستوى هذه الطموحات.

على سبيل المثال، في الأسبوع الأول من شهر رمضان، تمتلئ المساجد بالمصلين خلال صلاة التراويح، ثم يبدأ العدد في التناقص تدريجيًا حتى نهاية الشهر. هذا مثال واضح على ضعف الهمة. لا شك أن نوايا المتخلفين عن الصلاة حسنة، ولكن عزيمتهم وإرادتهم لم تساعدهم على الاستمرار والمواظبة.

(3) الإرادة هي الاستمرار في العمل الجاد والتخلي عن الراحة

الهمة الحقيقية ليست مجرد حماس مؤقت يزول بسرعة، فالإرادة الحقيقية تكمن في الثبات والاستمرار. وهذا ما أكده "أبو عبد الله بن خفيف"، فالأمر يتطلب جهدًا متواصلًا وتضحية بالراحة والاسترخاء.

الهمة المنشودة هي التي تدفعنا إلى القيام بعمل يومي لا ينقطع، نؤديه بإخلاص وتفانٍ دون ملل أو تذمر، ودون انتظار للمكافأة أو التوقف.

إنها همة لا تعرف الأعذار والحجج، بل تعتبرها اختبارًا لقدرتها على التحدي والاستمرار. فما الفرق بين أصحاب الهمم العالية وغيرهم؟

إنها همة يستشعر صاحبها الأمر الإلهي: "فإذا فرغت فانصب".

قد يكون العمل الذي يعزم عليه المرء يسيرًا وبسيطًا، لا ضير في ذلك، ولكن الأهم هو أن يكون مستمرًا ومتواصلاً مهما كانت الظروف والعقبات.

(4) جهاد النفس معركة لا تهدأ

يعتقد البعض خطأً أن التغيير يحدث فجأة، وأن الشخص يقرر أن يكون صالحًا فيصبح كذلك، ويغلق صفحة الماضي ويفتح صفحة جديدة. ولكن الحقيقة هي أن جهاد النفس وتهذيبها عملية مستمرة ومتواصلة مدى الحياة، وليست مجرد مرحلة عابرة. حتى الأشخاص الذين نعتبرهم من الصالحين يواجهون باستمرار تحديات وفتنًا، فالنفس البشرية متقلبة بطبيعتها، وهذا يتطلب يقظة ومراقبة دائمة.

قد تحضر مجلسًا يذكر فيه الله فيرق قلبك وتدمع عيناك، ثم تخرج إلى الشارع وتجد نفسك شخصًا آخر تمامًا. عندها، يجب أن تجاهد نفسك وتقمعها حتى تعود إلى الطريق الصحيح. وهذا هو بالضبط ما قصده جلال الدين الرومي، من أن حربك مع نفسك لا تتوقف أبدًا.

الشخص السالك في طريق الله يجد في البداية صعوبة ومشقة في أداء العبادات، وذلك بسبب عدم تعود قلبه على القرب من الله. ولكن عندما يمتلئ القلب بحب الله والأنس به، تزول هذه المشقة والصعوبة، وتصبح العبادة قرة عين وقوة ولذة.

(5) علامة حب الله هي الإكثار من ذكره

النفس ضعيفة وكثيرة التعلق بالأعذار، ولكن ذكر الله هو العبادة الأسهل التي تكشف تقصيرنا وتجاوزنا للحدود. فإذا غاب ذكر الله عن حياة المرء، فإنه يدرك بسهولة مدى تقصيره وأنه بحاجة إلى تصحيح المسار.

ما ذكره الربيع بن أنس منطقي جدًا، ونراه في حياتنا اليومية. فإذا أحببت شيئًا أو شخصًا، فإنك تكثر من ذكره. فكيف يدعي المرء حب الله ثم لا يداوم على ذكره؟

ما ذكره الشيخ محمد الغزالي لفت نظري إلى أمر آخر، وهو أن ذكر الله ليس مجرد استحضار لغائب، بل هو حضورك أنت من غيبة، وإفاقتك أنت من غفلة.

(6) بداية الطريق

في بداية الطريق، يجد السالك صعوبة ومشقة في أداء العبادات، بسبب عدم ألفة قلبه بمعبوده. تحدثه نفسه بالتوقف حتى يزيد إيمانه، فيستكمل العبادة ويشعر بالسعادة عند أدائها.

ولكن الحق الذي ذكره ابن القيم هو أن الأمر عكس ذلك تمامًا، فالنفس لن تشعر بهذه السعادة قبل أن ترغمها على سلوك الطريق، والصبر على مشقة العبادة، حتى ولو كان القلب غائبًا وغير مرتاح. فالاستمرار والمواظبة سيغيران كل شيء، وستصبح العبادة قرة عين.

(7) الآن، ما العمل؟

لا شيء..

سأستمر في طريقي، حتى لو سقطت مرة أخرى.

لا بأس، فقد أدركت طبيعة النفس وضرورة جهادها.

سوف تدفعني همتي العالية للوقوف من جديد، ومواصلة السعي والاجتهاد حتى أصل إلى الهدف المنشود.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة